أوجه الاختلاف في تحليل اسباب فشل الادارة العامة في دول العالم الثالث
بواسطة/ فيصل حمد المناور
منذ ﻧﻬاية الخمسينات وحتى بداية التسعينات من القرن الماضي دار جدل حول أسباب فشل الإدارة في دول العالم الثالث وبما أن هذا الجدل لم يحسم بالشكل المطلوب، لذا فإن هذه الورقه لا تعدو أن توضح هذه المشكلة وتبين أن هناك ثلاث مجموعات من المدارس أو الاتجاهات التي كان لها آراء متباينة حول أسباب فشل الإدارة في الدول النامية. فاﻟﻤﺠموعة الأولى قد نسبت الفشل في الدول النامية إلى تقليد النماذج الغربية بإحضارها معه عندما كان مستعمرًا لهذه الدول. غير أن اﻟﻤﺠموعة الثانية رفضت هذا الإدعاء و عللت الأسباب بأﻧﻬا تكمن في عوامل البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهذه الدول وليس لها علاقة البتة في تلك النماذج الغربية التي تم تبنيها . أما اﻟﻤﺠموعة الثالثة فقد أكدت أن النماذج الغربية وكذلك طبيعة العالم الثالث الخالية من التجربة هي العامل أو العوا مل لتخلف وفشل الإدارة في هذه الدول.
أخذ الاختلاف في وجهات النظر يلعب دورًا هامًا في البحوث والدراسات التي تدور حول فعالية الإدارة العامة في دول العالم الثالث ( الدول النامية ( وانقسموا كتاب هذه البحوث والدراسات العلمية إلى ثلاث مجموعات:
اﻟﻤﺠموعة الأولى : ويمثلهم الكاتب المعروف في مجال الإدارة المقارنة فيرل هيدي الذي يرجع بالأساس فشل الإدارة بالدول النامية إلى تقليدها للنماذج الغربية المستوردة. لذا فإن المشكلة في نظره لن يكون لها حل إلا بالخلاص من هذه النماذج واستبدالها بأخرى تتم صياغتها من داخل البلد نفسه.
أما الكاتب الشهير في مجال الإدارة فرد رجز مثل وجهة نظر اﻟﻤﺠموعة الثانية فقد قال : إن عدم فعالية أو فشل الإدارة بدول العالم الثالث ليس له علاقة بتبني النماذج الغربية ولا بتعديل صياغتها، بل أن ذلك ناتج عن وجود عوامل بيئية لم يحددها وإنما أشار إليها على أن لها علاقة بالبيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة.
أما وجهة نظر اﻟﻤﺠموعة الثالثة والأخيرة : فيمثلها الكاتب ميلتون اسمان الذي آثر أن يكون بين اﻟﻤﺠموعتين في تحليله الذي وضح فيه أن إعادة صياغة النماذج الغربية وتعديلها بما ينطبق مع طبيعة البلد قد يقلل من المشكلة والسؤال الذي ينبغي طرحه على حد قوله يكمن في الكيفية التي يستطيع من خلالها الإداريين في دول العالم الثالث أن يكيفوا النماذج الغربية لتتمشى مع طرقهم وثقافاﺗﻬم المختلفة . وسوف نوضح بعض التفاصيل الموجزة عن كل مجموعة على حده. علمًا بأن لكل مجموعة من هذه اﻟﻤﺠموعات كتاب ومنظرين يؤيدون هذه اﻟﻤﺠموعة أو تلك في داخل الوطن العربي وخارجه.
-التحليل-
اﻟﻤﺠموعة الأولى :
هذه اﻟﻤﺠموعة التي يمثلها فيرل هيدي تؤكد أن الدول النامية جميعها سواء المستقلة منها أو التي نالت استقلالها مؤخرًا من الاستعمار الغربي تتمتع بسمات عامة منها :
١- أن هذه الدول تعودت على استعمال بعض المفاهيم للإدارة البيروقراطية الغربية وعلى هذا الأساس، فإن القاعدة الأساسية التي تتكون منها إجراءات وتنظيم الإدارة العامة في هذه الدول مقلدة ومستوردة وليست نابعة من مفاهيم أو احتياجات البلد نفسها.
٢ - هذه الدول النامية تستطيع أن تختار ما يتناسب مع تاريخها وتقاليدها وعاداﺗﻬا حتى لا تكون تلك النماذج سببًا في فشلها . وأعطي مثال على ذلك، ما حصل من تأثير النمط الإداري للولايات المتحدة على الفلبين. ورغم المداولات والكتابات والبحوث التي دارت حول هذا الموضوع واختلاف الرأي إلا أن هيدي استمر في التأكيد على وجهة نظره من جديد ومحاولة ترسيخ هذا المفهوم مرة أخرى عند إعادة طبع كتابه الأخير عام ١٩٩١ م ، ففي ظل تلك الاختلافات التي ظهرت في أدبيات الإدارة العامة والتي لا تنطبق لبعضها البعض مع ما أكد عليه هيدي في كتابه الأول. فقد حاول في كتابه الجديد أن يشير إلى أن أسبقية البيروقراطية الغربية التي شكلت البيروقراطية المتطورة في الدول النامية لا تعني أﻧﻬا أقل ملائمة من تلك التي تنشأ داخل هذه الدول نفسها ولكنها تؤكد أهمية التكيف بعد الاستقلال كحالات متغيرة وخاصة لتعزيز الشرعية لتلك السلطات التي تحاول التقدم نحو تحقيق الهدف التنموي. لذا فإن استمرار تقليد الدول النامية - على حد قوله – لتلك النماذج الغربية قد نتج عنه عدة عوامل ومنها عجز الحكومة عن إيجاد القوى البشرية الماهرة التي يسند إليها تطوير البرامج التنموية ونقص في قدرة الإدارة وتدريبها للرؤساء الإداريين على هذه النماذج المستوردة بالإضافة إلى ظهور فساد مستفحل داخل الإدارات الحكومية في هذه الدول النامية مما أدى بالتالي إلى فشل الإدارة في هذه الدول
ومن رواد هذه اﻟﻤﺠموعة" أيم ايككوي" الذي نشر مقالة بعنوان (تطور الإدارة العامة والنظام الرأسمالي) ، ونسب فشل الإدارة في العالم الثالث إلى الدول الرأسمالية التي كانت هذه الدول تخضع لسيطرﺗﻬا ، حيث أكد في طرحه أن دول العالم الثالث كانت معاقة من قبل الدول الرأسمالية التي تمتلك القوة في تكوين النظم والأسس الإدارية داخل إداراﺗﻬا لخدمة مصالحها في هذه الدول المستضعفة. لذا فإن هذه النظم والنماذج التي خلفها النظام الرأسمالي الاستعماري بحاجة إلى تغيير محتوياﺗﻬا لأﻧﻬا لم تعد صالحة لدول العالم الثالث المستقلة. كما أﻧﻬا لم تعد فعالة في اﻟﻤﺠال التنموي لهذه الدول. ومن هذه اﻟﻤﺠموعة أيضًا "رالف بريبانتي" الذي سبق ايككوي في بحوثه وافتراضاته التي أخذت دورها في بداية الستينات. والتي أوضحت أن المشكلة تكمن في كون الدول النامية تسرعت في علمية التنمية الشاملة للنهوض بشعوﺑﻬا . ونظرًا لذلك فقد أخفقت في تحقيق ما تود تحقيقه للأسباب الآتية :
١ - استعملت هذه الدول نماذج غربية معقدة.
٢ - ظهور فجوة كبيرة بين ما تمليه هذه النماذج من أسس وقوانين وبين الطريقة العملية لتطبيقها.
٣ - إن هذه الأسس والقوانين التي استعملتها الخدمة المدنية في الدول الاستعمارية المتقدمة والتي تقوم الدول النامية بتقليدها قد لا تكون صالحة من الأساس لأﻧﻬا عملت تحت نظام مختلف لعلاج مشاكل مختلفة.
لقد كانت وجهة نظر اﻟﻤﺠموعة الأولى معبرة عن نظريات اجتهادية واستنتاجات تقديرية باستثناء الباحث" رالف بريبانتي" الذي استطاع في بحثه المكثف أن يشير إلى الفجوة بين المكونات القانونية للنماذج الغربية وطريقة تطبيقها على أرض الواقع في الدول النامية. وهو ﺑﻬذا قد انفرد عن مجموعته في تلمس الحقيقة وذلك من خلال تطبيقات على نظام الخدمة المدنية الباكستاني. غير أنه لم يوضح لنا العوامل البيئية التي أدت إلى وجود هذه الفجوة. بل اعتمد التعميم إلى أن النماذج الغربية كانت معقدة وليس من السهل تطبيقها.
وهذه النظرة يختلف معه فيها فرد رجز الممثل لنظرة اﻟﻤﺠموعة الثانية الذي حاول أن يشير إلى العوامل البيئية في إطارها الصحيح. حيث نبه في مجادلته إلى أن الفشل في الإدارة العامة معظم الدول النامية لم يأتي نتيجة لتبنيها النماذج الغربية المعقدة كما ذكر "بريبانتي " لأن هذه الدول لم تحسن الاختيار كما أشار هيدي، بل أن هذا الفشل قد جاء نتيجة عوامل بيئية واجتماعية وسياسية واقتصادية استطاعت أن تحول دون تطبيقها الفعال. كما أن هذه العوامل تحول دون التغيير أو التكيف لكل جديد بصرف النظر من أين كان مصدره وحتى لو كان من داخل الدولة نفسها.
اﻟﻤﺠموعة الثانية :
جاء فرد رجز في مقدمة الناقدين لوجهة نظر اﻟﻤﺠموعة الأولى ولم يكتف برفض ما ذكرته هذه اﻟﻤﺠموعة من أسباب فشل الإدارة في الدول النامية بل تعدى ذلك إلى انتقادهم في استعمال التعريفات والتعبيرات السياسية الجيولوجية في المقارنة ، كتعبير يشير إلى عدم ملائمة استعمالها في (East and West) المقارنة بين الغرب والشرق بخصوص هذا اﻟﻤﺠال ، إلا إذا كان كل ما يعبر عنه غربيًا أو شرقيًا في أساسه . لأنه يخالف الحقيقة في نظره وقد وضح ذلك في مقاله المشهور الذي أشرنا إليه سابقًا والذي يقول "عندما نتتبع خلفية اكتشاف المؤسسات البيروقراطية الحديثة نجدها بالفعل ليست غريبة الأصل وإنما جاءت إلى أوربا من الصين عن طريق الهند.
لذا فإن اﻟﻤﺠموعة الثانية يمكن اعتبارها أنها معبره عن الغرب والشرق فهذا الافتراض يعتبر غير ملائم ويؤدي إلى ضياع المعنى وعدم جدوى المقارنة ، ويرى أن الخيارات الأخرى لوضع المقارنة الصحيحة تعتمد بالدرجة الأولى على المعرفة الشاملة للتركيبة الحكومية والعوائق البيئية التي تؤثر على الإنجازات والتنفيذ داخل أي بلد من بلدان العالم . بالإضافة إلى أهمية وجود إطار نظري يساعد على معرفة العوامل الكامنة والتي هي بالحقيقة سبب وراء فشل الإدارة بدول العالم النامي.
اﻟﻤﺠموعة الثالثة :
حاولت هذه اﻟﻤﺠموعة أن تكون في الوسط بين هاتين اﻟﻤﺠموعتين وفي مقدمتهم" ميلتون اسمان" الذي يرفض أن يكون هناك خطأ في تقليد دول العالم الثالث للممارسات العلمية الغربية ، حيث تبلورت وجهة نظرها حول إمكانية استعمال النماذج الغربية في الدول النامية لأﻧﻬا قد تساعد على التنمية في هذه الدول لكوﻧﻬا مناسبة وأكثر فعالية عندما تحدد التكنولوجيا السلوكيات ويكون هناك إجماع على المعنى والهدف وتكون الفعالية والقدرة والعمل الجاد هي المسيطرة على هذه السلوكيات هذه اﻟﻤﺠموعة تؤكد أن المشكلة ليست في تقليد النماذج الغربية ولكن المشكلة تكمن في صياغة المادة وتعديلها مما ينطبق مع طبيعة البلد . لقد غاب على الجهات الإدارية في دول العالم الثالث تكييف هذه النماذج الغربية مع ما يتمشى مع عاداﺗﻬا وثقافاﺗﻬا المختلفة. وعلى هذا الأساس فقد أخذت الدراسات والبحوث التي خصصت في مجال الإدارة المقارنة في الدول العربية وخارجها في التنقيب عن بعض المشاكل التي تتعرض لها الإدارة في الدول النامية بشكل عام دون وجود دراسات ميدانية تحليلية لحالات خاصة في بلدان معينة. وفيما يلي سوف نستعرض بعض الكتابات التي تحاول التنويه عن بعض المشاكل الإدارية في الدول النامية.
من بين هؤلاء الكتاب الذين يرجعون فشل الإدارة في الدول النامية إلى السياسة العامة لهذه الدول "ستيفن أوما" الذي فسر في مقاله بان انتشار الفساد في الدول النامية يعود إلى استغلال البيروقراطيين في هذه الحكومات لسلطتهم النظامية أو القانونية في مكاسبهم الشخصية التي تتعارض كليًا مع المصلحة العامة، هذا التصرف أدى في النهاية إلى عدم فعالية الإدارة العامة ﺑﻬذه الدول.
أما "هرفي تيلر" الذي زار ثلاث دول أفريقية وهي "تنزانيا وكينيا وزيمبابوي "فقد أوضحت دراسته التي ركزت على الموظفين في القطاع العام لهذه الدول ، أن المحادثات التي تدور بين المواطنين في هذه الدول بالإضافة إلى الإعلام بشكل عام قد عبرت عن عدم الارتياح لكفاءة الأداء في المؤسسات الحكومية، كما أن ضعف الإدارة الذي لوحظ من خلال الدراسة قد تسبب في انتشار الرشوة والفساد، وعليه فقد اقترح أن يكون هناك تغيير إصلاحي لإعادة تنظيم هذه المؤسسات حتى تتساير مع متطلبات التنمية، إن افتقار معظم البلدان النامية إلى اكثر الأسس أهمية من أجل وجود بيروقراطية مهنية تستند إلى القواعد النظامية الرسمية، جعل القادة الذين يحبذون الإصلاح في هذه الدول لا يستطيعون ترجمة أهدافهم إلى واقع ملموس لأن الآلية التي تربط بيانات السياسة بالأداء الفعلي توقفت عن العمل، وكنتيجة لذلك نشأت فجوة واسعة بين ما تقوله الدولة أﻧﻬا سوف تفعله وبين ما تفعله أي بين القواعد الرسمية للمؤسسات العامة وبين القواعد الفعلية. لذا فإن العبرة تكمن في كيفية إغلاق هذه الفجوة وإعادة إرساء المصداقية لسياسات الحكومة والقواعد التي تعلن أﻧﻬا تطبقها والتأكد من انه يجري تطبيقها بالفعل .كما أنه ليس هناك ضمان بأن تدخل الدولة بما يفيد اﻟﻤﺠتمع . فاحتكار الدولة لوسائل المعلومات يعطيها السلطة للتدخل بصورة تحكمية، يخلق من هذه السلطة المقترنة بإمكانية الاطلاع على معلومات ليست متاحة للجمهور العام فرصًا أمام الموظفين العموميين (البيروقراطيين) لتدعيم مصالحهم الخاصة أو مصالح أصدقائهم أو حلفائهم على حساب المصلحة العامة كما أن هناك إمكانيات كبيرة للربح والفساد . لذلك ينبغي للدولة أن تعمل على إنشاء آليات من شأﻧﻬا أن توفر لأجهزة الدولة المرونة والحافز للعمل من اجل ا لصالح المشترك والعمل في نفس الوقت على تقييد التصرفات التحكمية والفاسدة في التعامل مع أنشطة الأعمال والمواطن.
-خاتمه-
من خلال ما سبق عرضه من اتجهات مختلفه حول تحليل وتفسير اسباب فشل الادارة العامه في بلدان دول العالم الثالث مقارنه بالدول الغربيه، فوجدنا أن هناك ثلاث مدارس وتوجهات مختلفة بقيادة ثلاث علماء برزوا في ايجاد قاعده معرفيه حول الادارة المقارنه وهم " فيرل هيدي و فرد رجز و ميلتون اسمان"، ويمكننا ان نخرج بنتيجتان هامتان هما:
١- يجب أن لا تسعى التحليلات والدراسات المقارنة إلى بناء نماذج نظرية. بقدر ما تكون أقرب إلى التطبيق والعمل على ملائمة هذه النظريات والنماذج لظروف وبيئة الدول النامية.
2- أنه من واجب هذه الدراسات المقارنة أن تفسر وتحلل اوجه الاختلاف والتشابه بين أنظمة الإدارة العامة كما هي قائمة بالفعل في اﻟﻤﺠتمعات المعاصرة ومن ثم القيام بتحليل وتفسير عوامل البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحضارية وغيرها ومدى تأثيرها على بناء هذه الأنظمة وأدائها.
المراجع:
العربية:
1- عاصم الأعرجي ، دراسات معاصرة في التطوير الإداري – منظور تطبيقي ، دار الفكر للنشر والتوزيع، عمان 1995.
2- محمد فتحي محمود، الإدارة العامة المقارنة ، مطابع الفرزدق التجارية،ط2، الرياض 1997.
الاجنبية:
1-Ferrel Heady (1984), Public Administration , Comparative Perspective,New York : Merisel Dekker.
2- Fred W. Riggs (1972), “The Myth of Alternative underlyingAssumptions About Administrative Development , Issues in Developing economics”, ed, Kenneth Roth well Lexington , MA.,Lexington books
3 - Milton J. Esman (1974) Administrative Doctrine and Development Needs , in Administration and Change in Africa, ed, E.ph:I:P Morgan New York, Dunelier.
تحياتي/ فيصل حمد المناور